مفهوم المجتمع
المحور الاول: أساس الاجتماع البشري
قولة الإنطلاق:
"الحاجة أساس المجتمع" حلل وناقش مضمون القولة.
1-مستوى الفهم.
يضعنا مضمون هذه القولة أمام موضوع المجتمع وبشكل خاص أساس المجتمع، وقبل أن نكشف طبيعة التصور الذي تعبر عنه القولة نحدد دلالة المفهوم المركزي للقولة وهو المجتمع. يشير المجتمع في دلالته الفلسفية إلى (مجموعة من الأفراد توجد بينهم علاقات منظمة ومصالح متبادلة).و يتضح من خلال هذا التعريف أن العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع هي علاقات منظمة يلتزم بها الأفراد وتختلف عن العلاقات العابرة التي قد تنشأ عن تجمع طارئ مثلا قرب مكان يوجد به ماء، إن هذا التجمع لن يؤدي إلى قيام مجتمع مادام كل فرد من هذه المجموعة يقوم على انفراد بإشباع حاجاته إلى الماء، لكن دائما يقوم الأفراد والآخرون في هذا التجمع بمساعدة العطشان على إرواء ظمئه، وقتئذ يتوفر شرط أساسي لقيام مجتمع حقيقي، وهو وجود شبكة من العلاقات المتبادلة بين الأفراد مبنية على أساس تبادل التأثير والتأثر وتبادل المصالح .بعد هذا التحديد لدلالة مفهوم المجتمع ننتقل إلى طرح الإشكال المؤطر للقولة والذي يمكن صياغته في التساؤل التالي: إذا كان المجتمع مجموعة من الأفراد توجد بينهم علاقات متبادلة، فعلى أي أساس يقوم الاجتماع البشري؟ هل يرتبط بوازع فطري طبيعي أم يقترن بإرادة الإنسان في التساكن مع أخيه الإنسان في ظل تعاقدات ومواثيق مشتركة؟
2-مستوى التحليل:
تتقدم القولة، كجواب على هذا الإشكال، بأطروحة مفادها أن الاجنماع البشري ضروري، ويكون بالفطرة والطبيعة وليس بالاتفاق والتعاقد،ويجد هذا الموقف سنده في أطروحة ابن خلدون إذ يؤكد أن الناس يؤسسون مجتمعات لأنهم يحتاجون إلى بعضهم البعض ،وقد وظف مجموعة من الأساليب الحجاجية للدفاع عن هذا الموقف، حيث ابتدأها بالاستشهاد بقولة مشهورة للفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي يقول إن الإنسان (مدني بالطبع)، ومعنى هذا أن التجمعات البشرية تقوم بتحقيق لطبيعة الإنسان وتكمل ماهيته ،فقدر الإنسان في نظر أرسطو هو أن يعيش في مجتمع مع أبناء جلدته وأفراد نوعه، وهذا ما حاول ابن خلدون تأكيده من خلال إبرازه الكيفية التي خلق بها الإنسان، فالله خلقه على صورة لا يمكن أن يتم له البقاء إلا بوجود الغذاء، ومنحه القدرة على تحصيله، لكنه يبقى عاجزا عن ذلك بمفرده ما لم يتعاون مع بني جنسه وفي هذا الصدد يقول :(ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة فلا يحصل إلا بعلاج الكثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحدة من هذا تحتاج إلى مواعن وآلات لا تتم إلا صناعات متعددة من حداد ونجار...) إذ ان المجتمع هو السبيل إلى تحقيق حاجاته ومتطلبات حياته.
نخلص من خلال تحليل موقف القولة الى أن الاجتماع البشري ضروري بالطبيعة ،إذ لا يمكن أن يحقق الإنسان حاجياته الطبيعية، ويدافع عن نفسه من كل ما يهدد وجوده الابالعيش داخل مجتمع تربط بين افراده علاقات تعاون وتآزر،لكن هل يمكن القبول بهذا الموقف كحل لاشكالية اساس الاجتماع البشري؟الا يمكن أن يكون اساس الاجتماع البشري هو إرادة الإنسان في التعاون مع أخيه الإنسان أو بمعنى آخر؟ الا يمكن أن يتأسس الاجتماع البشري على الاتفاق وتعاقد؟
3-مستوى المناقشة:
أن الموقف الذي عبرت عنه القولة له قيمته الفكرية والثقافية، والذي طوره ابن خلدون من خلال تأسيسه لعلم (العمران البشري) إذ توصل إلى جملة من القوانين تعبر عن واقع المجتمع الذي عاش فيه، فيمكن القول انه المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع إذ سبق August Comte ولا ننسى أيضا أن ما قدمه ابن خلدون حول الاساس الطبيعي للمجتمع وجد له حضورا لدى الفلاسفة المسلمين مثل أبو نصر الفرابي في كتابه (أراء أهل المدينة الفاضلة) إذ أكد على أهمية الاجتماع البشري في تحقيق السعادة، فسعادة الفرد مشروطة بسعادة المدينة ،شريطة أن يقصد هذا التعاون في الأشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية .وفي هذا يقول (كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه وفي ان يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه... فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان على درجة من الكمال الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية إلا باجتماعات جماعات كثيرة متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه). لكن هذا التصور الطبيعي لأساس المجتمع لم يلق القبول من طرف فلاسفة عصر الأنوار مثل جون جاك روسو وطوماس هوبس، فقد أرجع هؤلاء نشأة المجتمع ونشأة السلطة إلى نوع من التعاقد الصريح أو الضمني بين أعضاء المجتمع حيث يتنازل كل واحد منهم عن قسط من حقوقه وحرياته للجماعة أو السلطة المنبثقة عنها، وهكذا أصبح المجتمع قائما على نظرية التعاقد والتي تروج لمفاهيم مثل سيادة الشعب، أولوية القانون ،المساواة في الحقوق والواجبات ... وقد عبر طوماس هوبس عن هذا التوجه من خلال اعتباره المجتمع البشري نتاجا لرابطة ناشئة عن تعاقد إرادي وليس ناتجا عن ميل طبيعي يتأسس على الفطرة، الأمر الذي أكده في كتابه le leviathan * *وذلك أنه لم يكن بوسع الناس أن يخرجوا به دائرة العنف الطبيعي الذي كان فيه الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان إلا بالتنازل عن حريتهم والتخلي عن أهوائهم الطبيعية والتعاقد على سلطة قانونية تشكل حاصل إرادتهم أو بتعبير آخر إنه اتحاد ناشئ عن عقد وميثاق يربط كل فرد مع سائر الأفراد وكأن كل واحد منهم يخاطب غيره بقوله (إنني قد تنازلت له "الحاكم" عن حقي في أن أسوس شؤون نفسي بنفسي شريطة أن تتنازل له انت أيضا عن حقك وأن تقبل كل فعل صادر عن هذا الرجل أو عند هذا المجلس).
4-
مستوى الاستنتاج
نستنتج من خلال تحليل ومناقشة القولة أن للطبيعة دورها في هذا التأسيس، فالتركيبة البيولوجية للإنسان التي تماثل قوانينها قوانين الكائن الحي تجعله في حاجة ماسة إلى التعاون مع بني جنسه، لكن هذا الأمر لا يعني أن الاجتماع البشري هو من نفس نوع الاجتماع الحيواني،فالحيوانات تعيش حياة اجتماعية تقوم على التعاون فيما بينها لتحصيل العيش ودرء الأخطار الخارجية التي تهدد وجودها، فنجد لديها تقسيم العمل والبناء الطبقي وظاهرة الخضوع والسيطرة ،الا ان بناء المجتمع البشري لا يقف عند حدود الغريزة وإنما يستحضر العقل والإرادة، مما يجعله يصل إلى تعاقدات ومواثيق تجعل مختلفا عن مجتمعات أخرى،لذلك نجد التنظيم البشري يتغير باستمرار في حين أن التنظيم الحيواني ثابت منذ ملايين السنين لأنه مؤسس على الغريزة ،إلا أن تأسيس المجتمع الإنساني على العقل والتعاقد لا يعني خلوه بدوره من هيمنة طرف على طرف أو حضور سلوكات من الصنف الحيواني فاحتكام مجتمعات إنسانية إلى العقل لم ينجها من سيادة الغريزة والأهواء على سلوك أفراده، ليصبح العقل هنا مجرد وسيلة لتبرير هيمنة سلوكات لا عقلية كالعنف والظلم والاستعباد.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire