إن
مجال الفلسفة –وكما يتبين ذلك من خلال تاريخها- لا يسمح بالحديث عن تعريف شامل
وعام أو عن تعريف للفلسفة أفضل من التعاريف الأخرى، لأن كل تعريف يشكل خلاصة
التفكير للفيلسوف الذي ينهجه الفيلسوف لمعالجة قضاياه وهو أسلوب واحد لا يختلف فيه
أحد من الفلاسفة بل يشكل ثابتا أساسيا في الممارسة الفلسفية، وهذا يدفعنا إلى التساؤل
عن ما يميز اللحظة الفلسفية في مقاربتها لموضوع ما أو بعبارة أخرى، ما هو الشيء
الذي يشكل كائنا أساسيا، الذي لا غنى عنه لكل ممارسة فلسفية؟
للإجابة
عن هذا السؤال سنقف عند نص لأحد الفلاسفة الوجوديين الألمان وهو كارل ياسبرز
"1883-1969م" ليتبين من خلاله أولا تعريف الفيلسوف الوجودي للفلسفة
وثانيا طبيعة أسلوب الفلسفة الذي نهجه هذا الفيلسوف لمعالجة موضوعه أو ما يعرف
بخصائص التفكير الفلسفي، فكيف يطرح صاحب النص موضوع تعريف الفلسفة؟ وفيما تتمحور
الخصائص المميزة للفلسفة.؟
تحليل النص:
يعتبر
هذا النص للفيلسوف الألماني كارل ياسبرز إجابة أو ما محاولة للإجابة عن السؤال ما
الفلسفة؟ وتحديدا لخصائصها بالمقارنة مع التفكير العلمي إذ يستهله بعرض مجمل
للتصورات التي قدمت حول ماهي الفلسفة وقيمتها؟ والتي تميزت أحيانا بالتقدير
والاحترام وأحيانا أخرى بطابع الازدراء وقد حاول تبرير هذا الاختلاف بالرجوع إلى
شساعة هذا الفكر وخصوصية موضوعاته وتنوعها بتنوع التجربة الإنسانية وتعدد أبعادها،
ويضيف أن قيمة الفلسفة تكون موضع شك وتساؤل أكثر حين تقديم مقارنة بينها وبينما ما
وصل إليه العلم من إجماع حول يقينية معرفة ما، وهذه المقارنة لا تزيد إلا إساءة
للفلسفة وازدراء لوظيفتها مع العلم أن تحديد ما هية الفلسفة وقيمتها يجب أن يتخذ
مسعى آخر بعيدا عن منطق المنفعة والنجاح، والنظر إليها كما هي، ومنطقها الداخلي
وجوهرها الخاص، هذا المنطق الذي يتميز بالنقد والمساءلة والنظرة الشمولية لموضوعات
الكون والطبيعة والإنسان. وانطلاقا من هذا المنطق تتحدد قيمة الفلسفة ووظيفتها –في
نظر كارل ياسبرز- في كونها تجربة ذاتية تتخذد من الإنسان في كليته موضوعا للبحث
والتساؤل المستمر عن دلالة وجوده وموقعه داخل هذا الكون ليس لغرض امتلاك حقيقته
لأن الحقيقة ليست موضوعا نمتلكه أو نحاول اجتيازه، كما هو الشأن في المجال العلمي.
إن
فهم تصور كارل ياسبر حول الفلسفة لا يمكن
أن يتألف إلا بربطه بمذهب الوجود الذي ينتمي إليه وبربطه أيضا بتخصصه للأمراض
العقلية وقد حدد هذا بشكل كبير تصوره للمشكلات الفلسفية، فلم ير في الظواهر النفسية
المرضية تعبيرا عن تحلل الفرد بل رأى فيها بحث الإنسان عن فرديته ،واعتبر ان هذا
البحث المرضي هو جوهر التفلسف الحقيقي، إنه هذا يذكرنا بما قاله الفيلسوف الألماني
شوبنهاور 1988-1860، إذ يقول "إن معرفة الأمور المتعلقة بالموت وبالألم وببؤس
الحياة، هو بدون شك الدافع الأقوى للتفكير الفلسفي" إن موقف كارل ياسبرز يحمل
في طياته عناصر مهمة، يمكن اعتبارها ثوابت أو خصائص أساسية تطبع كل ممارسة فلسفية
مهما كان نوعها وقناعة ممارسيها.
يمكن تلخيص الخصائص المميزة للتفكير الفلسفي في
العناصر الثالثة: النقد- التساؤل المستمر- النظرة الشمولية- المحاجة أو البرهنة
الحججية.
النقد: يقصد بممارسة النقد في الفلسفة أولا الدخول إلى عمق أي
إنتاج فكري بشري بدل النظر إليه من الخارج، ثانيا التركيز عن الجوانب الإيجابية في
هذا الإنتاج وتضمينها، أما الجوانب السلبية فيتم الكشف عنها عند الضرورة، مما يمنح
النقد الفلسفي طابعا إيجابيا، ويصنفه ضمن النقد البناء الهادف إلى الوصول إلى
الحقيقة، وإذا كان الشك Le doute عنصرا أساسيا في النقد، أي الشك
في البداهات اليومية والأجوبة الجاهزة، والمعارف التي تقدم نفسها تامة مكتملة
ونهائية، فإنه لا يشكل في واقع الأمر إلا خطوة أولية للوصول إلى حقيقة الأشياء
لهذا سمي الشك المنهجي. وهو ما طبع التفكير الفلسفي منذ ميلاده وقد اتخذه الفلاسفة
رغم اختلافهم واختلاف مشاربهم الفكرية كأسلوب لتطهير العقل من الأحكام المسبقة ومن
سلطان العادة ورتابة الغريزة وبلادة التقليد في التعامل مع الأشياء. ولنا في
مؤلفات الفيلسوف روني ديكارت نموذجا حيا لهذا الأسلوب الفلسفي المتميز الذي مارسه
على ثقافة عصره والتي هيمن عليها الفكر الكنسي الإقطاعي خاصة في كتابه Discours de
la méthode
كما نجد هذا النوع من
الشك لدى الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون الإنجليزي " الأركانون
الجديد" والذي دعا إلى تطهير العقل وصقله بتخليصه من الأوهام الأربعة
المتحكمة فيه وعلى رأسها "وهم المسرح"، الذي يرمز إلى عبوديتنا للآخرين،
الذين يلعبون أو يعملون أو يفكرون بدلا منا،كما يفعل الممثل المسرحي أمام الجمهور المتفرج،
الأمر الذي لا يمكن تصوره في الممارسة الفلسفية النقدية.
التساؤل المستمر: يعتبر التساؤل إلى جانب النقد من الخصائص المميزة
للتفكير الفلسفي، وهو الذي يمنح هذا التفكير طابعا إشكاليا ويميز سؤاله عن باقي الأسئلة
العادية والعلمية، فالسؤال العادي نطرحه حين نود معرفة شيء أو أمر نجهله، كأن نسأل
مثلا أين توجد الثانوية؟ وهو سؤال عادي نود من خلاله التعرف على مكان نجهله ونسعى
إلى جواب قطعي ونهائي، مثل: إنها هناك، لكن السؤال الفلسفي هو تساؤل والتساؤل يأتي
بعد معرفة تدعى الاكتمال، فيبدأ الفيلسوف بفحصها والشك في صدقها معتمدا في ذلك على
سلسلة من الأسئلة تختلف من حيث درجة العمق، إلى أن يقترب من حقيقة تلك المعرفة.
فالسؤال
الفلسفي إذا يختلف جذريا عن السؤال العادي، إذ يرتبط بالمعرفة ويسعى إليها، معنى
ذلك أنه يتوجه إلى إنسان عارف أو إلى الذي يدعي المعرفة في الحوار الأفلاطوني
مثلا، نجد أن سقراط إضافة إلى قدرته على التمييز بين الأشياء، فهو يسعى إلى تحطيم
البداهات حول مواضيع محددة مثل: الفضيلة- العدالة- الشجاعة- العلم،... باعتماده
على أسلوب التوليد الذي هو عبارة عن نقد تساؤلي، كأن يظهر جهل محاوريه إذ يعتبرهم
دون مستوى المعركة
من خلال إبراز التناقضات في كلامهم، لأنها لا تنفذ إلى عمق السؤال بل تكتفي بما هو
ظاهري ومباشر.
ويختلف
السؤال الفلسفي عن السؤال العادي بكونه يتكون من سلسلة من الأسئلة أكثر أهمية إذ
يصبح الجواب عن السؤال بدوره سؤالا جديدا إذ أن الفيلسوف لا يكتفي بسؤال واحد حول
موضوع محدد بل يعطي السؤال بصيغ مختلفة لكن كل تساؤل يكتسب معنى عميقا ويتخذ له
قضية كبرى خلافا للسؤال العادي كالمثال الذي أوردناه سابقا: أين توجد المحطة؟
النظرة الشمولية: إن ما يطبع التجربة الفلسفية ويجعلها ذات طابع شخصي هي
تلك النظرة إلى أمور في كليتها وشموليتها، وليست كظواهر جاهزة منفصلة كما هو الشأن
في الميدان العلمي، حيث نجد العالم يهتم بظواهر جزئية لها ارتباط بتخصصه فقط فإذا
سألنا العالم الفيزيائي مثلا: ما الإنسان؟ فهو يجيب بأنه مركب كيميائي يتفاعل مع
عناصر اخرى تنتمي إلى الوسط الذي يعيش فيه كالضوء والحرارة، وهو بهذا التعريف يلغي
جوانب متعددة تساعد على إعطاء معنى عادي لمفهوم الإنسان، أما الفيلسوف فإن تعريفه
للإنسان يتخذ أبعادا متعددة إذ يحاول تحديد العناصر المشكلة لحقيقة الإنسان:
نفسية، اجتماعية، أخلاقية، سياسية، بيولوجية،...
حقا
إن الفلسفة لا تخلو من وصف وتفسير لكن ما يميز الفيلسوف عن العالم هو اهتمامه
بتكوين نظرة متجانسة موحدة عن شتى جوانب الكون، إنه يسعى إلى فهم الظاهرة المدروسة
فهما متعدد الأبعاد فلا يقتصر عن وجهة نظر واحدة بل يأخذ بعين الاعتبار مختلف
المواقف ووجهات النظر.
البرهنة
الحجاجية: إذا كان الجواب
الفلسفي يتمظهر على شكل خطاب، فإن هذا الخطاب لا يمكن تحديد مضامينه المعرفية
والمنهجية، إلا إذا كان مدعما ببراهين، وإذا كان مفهوم البرهان يحيل على مجال علمي
محدد إلا وهو الرياضيات ،والذي يعني الاستدلال العقلي الذي يستنبط من خلاله صدق
قضية رياضية ما انطلاقا من مقدمات أو قضايا رياضية صادقة صدقا منطقيا، فإن البرهنة
في الفلسفة لها طابع خاص، ذلك أنه يوجد اختلاف بين العلم والفلسفة، فالفلسفة لا
تقيم قضايا يحتمل أن يوجد بها الخطأ في استقلال عن سياقاتها، بل تقيم أطروحات غير
مصاغة صوريا أي تجريديا قضايا الرياضيات ولا يمكن فهمها خارج الوضعية الفلسفية
التي ولدتها، لذا تكون المحاجة argumentation هو الشكل الملائم للبرهنة
الفلسفية، فلا يؤسس الحجاج حقائق كما يتم داخل العلم، بل يحاول أن يؤسس لدى
المتلقي الذي يتوجه إليه، والفيلسوف لا يستطيع أن يقنع أحدا إلا إذا انطلق من معتقداته
وعواطفه، وفي عملية الإقناع هذه يستعمل كل الأساليب المنطقية البرهانية منها
والبلاغية من أمثلة واستعارة وكناية ومجاز... إن الهدف الأساسي من الحجاج هو تحقيق
إجماع بين العقول أو مضاعفة هذا الإجماع حول أطروحات ومواقف معينة.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire